النقد البنيوي تعريفه و وظيفته ومستوياته

النقد البنيوي تعريفه و وظيفته ومستوياته

المقدمة:

كان علم اللغة هو الميدان الفسيح والأرض الخصبة التى نما فيها المنهج البنيوي وترعرع، بل وأضحى يُطلَق على عالم اللغة السويسرى فرديناند دو سوسور (1857-1913) الذى حمل شعلة هذا المنهج فى الميدان اللغوى "أبو البنيوية" نتيجة لإسهاماته العميقة فى هذا المضمار. وتنبغى الإشارة هنا إلى أن دو سوسور لم يبلغ مكانته هذه فى حياته، نظراً لأن آرائه المفتاحية فى هذا المجال لم يتم نشرها وشيوعها إلا بعد وفاته بثلاث سنوات على يد تلامذته، وذلك فى كتابٍ حمل عنوان "محاضرات فى علم اللغة العام". ومن ثَمَّ، يمكن القول أن المبادىء الأولى للبنيوية - الحديثة والمعروفة - قد تم طرحها فى سياق علم اللغة والألسنيات.

فى أواسط العقد الثانى من القرن العشرين، حمل أحد أعلام المدرسة الشكلية الروسية، وهو رومان جاكوبسون (1896-1982)، راية المنهج البنيوى، بعد اطّلاعه على أعمال دو سوسور وهضمه إياها. إذ كان أول مَن استخدم كلمة "أبنية" هو تينيانوف، وتبعه جاكوبسون الذى نحت لفظ البنيوية لأول مرة فى عام 1929، بينما لم يأتِ ذكرهما فى محاضرات دو سوسور المنشورة سلفاً. ولكن أخذاً فى الاعتبار إسهامات السابقين، فيمكن القول أن البنيوية من تأسيس هؤلاء، لاسيَّما دو سوسور، لكنها لم تُعرَف ولم تظهر فى الفكر الغربى بهذه التسمية إلا على يد الروس فى العِقد الثالث من القرن العشرين.

تعريف النقد البنيوي:

لتوضيح مفهوم مصطلح البنيوية لا بد أولًا من الوقوف على الدلالة اللغوية له، فبالعودة إلى المعاجم اللغوية يتبيَّن أنها تحدّرت من بَنى يبْني بناءً، فهي إذن الصورة أو الهيئة التي شُيِّد عليها بناءٌ ما، وكيفية ذلك التركيب. ولا يعني ذلك عملية البناء نفسها أو المواد التي تتكون عملية البناء منها، وإنما تعني كيفية تجميع وتركيب وتأليف هذه المواد لكي نكوّن شيئًا ما ونخْلقه بهدف تأدية وظائف وأغراض معينة.

أما على صعيد المعنى الاصطلاحي الوضعي، فالبنيوية هي النظر في التصميم الداخلي للأعمال الأدبية بما يشمله من عناصر رئيسة تتضمن الكثير من الرموز والدلالات، بحيث يتبع كل عنصر عنصرًا آخَر. يهقم نهج فكري يقوم على البحث عن العلاقات التي تعطي للعناصر المتحدة قيمة وضعها في مجموع منظم مما يجعل من الممكن إدراك هذه المجموعات في أوضاعها الدالة.

خصائص البنية:

تتميز البنية بمجموعة من الخصائص حددها جون بياجي في ثلاث وهي:

الشمولية: وتعني الشمولية اتساق البنية وتناسقها داخليا، بحيث تتسم بالكمال الذاتي، فهي ليست وحدة مستقلة جمعت قسرا وتعسفا، بل هي أجزاء تتبع أنظمة داخلية من شأنها أن تحدد طبيعة الأجزاء وطبيعة البنية ذاتها.

التحول: فيعني أن البنية ليست وجودا قارا وثابتا، وإنما هي متحركة وفق قوانين تقوم بتحويل البنية ذاتها إلى بنية فاعلة(إيجابية) تسهم بدورها في التكوين والبناء وفي تحديد القوانين ذاتها.

الضبط الذاتي: أو الانضباط الداخلي فيتعلق بكون البنية لا تعتمد على مرجع خارجها لتبرير أو تعليل عملياتها وإجراءاتها التحويلية. بمعنى أن اللغة لا تبني تكويناتها ووحداتها من خلال رجوعها إلى أنماط "الحقيقة" الخارجية بل من خلال أنظمتها الداخلية.

وظيفة النقد البنيوي:

استخدمت البنيوية أكثر من طريقة في سبيل عرضها لمحتوى النقد للأعمال الأدبية.

البنيوية التكوينية: الفن له وظيفتان -من وجهة نظر البنيوية التكوينية- وهما: وظيفة اجتماعية ووظيفة فنية آلية، غير أن القيمة الجمالية هي المعيارالأساس، ويعد لوسيان غولدمان مؤسس هذه البنيوية التي لم تستطع النظر للنص كبنية منعزلة تمامًا عن الواقع الذي أنتجت فيه، بل ترى أنّ الأدب تعبير عن هذا الواقع، ولكنها تتفق مع البنيوية الشكلية في ضرورة إهمال مؤلف العمل الأدبي وعدم إعطائه أي قيمة فعلية في أثناء التحليل، لكنها عند إهمال المؤلف تسد هذا النقص بربط العمل الادبي بالمجتمع الذي خرج منه، وما يتضمنه هذا المجتمع من صراعات ومناورات كما يرى البنيويون الماركسيون.

البنيوية الشكلية: تُهاجم البنيوية الأدبية المناهج التي تعتني بدراسة الأدب من خلال الظروف والعوامل الخارجية ولا تفهمه أو تحلله إلّا في ضوئها، وعليه فالبنيوية الشكلية منهج يدعو لتحليل النصوص بالاكتفاء بها، بمعنى أنّ البنيويين لا يؤمنون بذاتية القارئ، فالقارئ عندهم مجموعة من الصفات التي بنيت وتشكلت من خلال القراءات السابقة لأعمال أدبية متنوعة، وتقدم ردود أفعاله وتقييماته لكل عمل أدبي جديد يُقرأ ضوء هذه الصفات، فمثلًا حين يقدم الكاتب أحد شخصيات روايته بطريقة معينة، يستطيع القارئ في ضوء الروايات التي قرأها من قبل تقديم طرق أخرى لتقديم هذه الشحصية.

مستويات النقد البنيوي:

لم تُبتدع البنائية هذه النظرية، بل كانت لها إرهاصات قوية منذ ما يقرب من نصف قرن، ويبدو أن سيادة الروح العالمي في منهاج الدراسات الإنسانية كان لها أثر بالغ في حدس بعض النقاد ببعض العناصر الأساسية في التحليل البنائي بشكل مبكر .

ولعل من أهمهم (رومان انجاردن)، الذي نشر كتابه (العمل الفني الأدبي) عام 19311 م بمدينة هيل، ثم دعمه بعدة كتب تالية آخرها نُشر في طوبنجن عام 1968م، وقدم رومان نظرية كاملة عن المستويات الأدبية وإن كانت لا تعد نموذجًا بنائيًا؛ لخلطها ببعض المقولات النفسية والأفكار المثالية بالجسم اللغوي للعمل الأدبي .

 فمثلاً المستوى الأدنى أو الأول عنده كان هو المستوى الصوتي الحسي اللغوي، وهو يحمل قيمًا أدبية محددة تقوم بدور حاسم في تشكيل المستوى التالي له وهو الخاص بالدلالة اللغوية، ويعد هذا المستوى الثاني أساس العمل الأدبي؛ لأنه يكّون موضوعاته وما يتمثل فيه من أشخاص وأحداث وأشياء؛ لأن دلالة الجمل في العمل الأدبي قد تبعث حالات صورية لأشياء متخيلة مقصودة هي التي تكون الموضوع.

هناك العديد من المستويات الخاصة بالنقد البنيوي، ومن أهم هذه المستويات ما يأتي:

المستوى الصوتي: تتم دراسة الحروف ورمزيتها في هذا المستوى، بالإضافة إلى تكويناتها الموسيقية.

المستوى المعجمي: يقوم الباحث في المستوى المعجميبدراسة الكلمات للتعرف إلىخصائصها الحسية، والتجريدية، ومستواها الأسلوبي.

المستوى الصرفي: في هذا المستوى تتم دراسة وظيفة الوحدات الصرفية في التكوين اللغوي والأدبي، ويستفاد منهذا المستوى من علم الصرف.

المستوى النحوي: وفيه يُبحث في بناء الجملة مهما كان نوعهاسواءً أكانت جملة اسمية، أم فعلية، أم شبه جملة.

مستوى القول: يتم التعرف إلى الخصائص الأساسية والثانوية للجمل الكبرى في مستوى القول،الأمر الذي يؤدي إلى إمكانية تحليلها.

المستوى الدلالي: يتم تحليل المعاني المباشرة، والمعاني غير المباشرة في المستوى الدلالي، إضافةً إلى الصورة التي تتصل بالأنظمة الخارجة عن حدود اللغة، والتي ترتبط بالعلوم الأخرى.

المستوى الرمزي: في هذا المستوى يتم إنتاج مستويات أدبية جديدة من الدالات السابقة، بحيث يصبح للمعنى معنىً آخر غير المعنى الأول وهذا ما يعرف باللغة داخل اللغة.

إن الناظر إلى هذه المستويات يجدها كلها تتصل باللغة، فهي تنطلق من اللغة وتُطبق عليها، واللغة كما نعرف لا تحتمل الاتساع والتحدد كما في مناهج النقد الأخرى ومن هنا تنبع عملية هذا المنهج وتعامله الدقيق مع النصوص الأدبية

 فالمحلل البنيوي يقوم بدراسة جميع هذه المستويات في نفسها أولاً، وعلاقتها المتبادلة وتوافقاتها والتداعي الحر فيما بينها والأنشطة المتمثلة فيها، وثانيًا هو ما يحدد في نهاية الأمر البنية الأدبية المتكاملة.

الخاتمة:

من كل ما سبق ذكره، نستطيع القول إن الحركة البنيوية امتدت إلى مجالات معرفية عديدة، ومنها النقد الأدبي. وقد كان لها حضورها المتميز في الساحة النقدية، خاصة وأنها أقامت مبادئها عبر عملية هدم لمختلف التصورات التي قدمتها المناهج النقدية التي سبقتها، وأسست مفاهيم جديدة تعلي من شأن النص ونظامه الداخلي.

إن العمل الأدبي من وجهة نظر بنيوية له وجوده الخاص، وله أيضا منطقه ونسقه المميز، بحيث إنه يعكس بنية مستقلة تتأسس على مجموعة من العلاقات الدقيقة التي تسهم في تشكيل بنية كلية متعددة المستويات ومتداخلة، الواحد منها يستدعي حضور الآخر، وهي التي تجعل من العمل الأدبي عملا أدبيا، يفرض على الناقد البنيوي البحث عن مظاهر الأدبية فيه ومختلف عناصرها، استنادا إلى عملية الوصف التي تستلزم دراسة هذا العمل في ذاته ومن أجل ذاته.


Post a Comment (0)
Previous Post Next Post